
قبل 5 سنوات
بعيدا عن كورونا.. الدكتور جلال المرابط يكتب حول تأسيس المسرح المغربي
يقول حسن المنيعي "يمكن الحديث عن البداية الفعلية للمسرح المغربي انطلاقا من دخول المسرح بمفهومه الإيطالي إلى سوق الفرجة أي عن طريق زيارة فرق مشرقية للمغرب(محمد عز الدين- نجيب الريحاني- فاطمة رشدي- يوسف وهبي)، وجدت أمامها جمهورا لم يتكون بعد، ولكنه كان يحمل في أعماقه استعدادا لتلقي المسرح"1.
وقد كان لهذه الفرق المسرحية المشرقية تأثيرا "عميقا على مجموعة من الشبان الذين اتخذوا المسرح، منذ بداية العشرينات، سلاحا لمقاومة الاستعمار، إلى درجة أن أحدهم وهو محمد القري أمسى ضحية فنه... وهذا يعني أن البداية إبان فترة الاحتلال كانت ترتبط بالنضال الوطني وإحياء مفهوم الوطنية" 2.
ومع بزوغ عهد الاستقلال: "حاولت مجموعة من المسرحيين المغاربة بالخروج بالعمل المسرحي من حدوده الضيقة القائمة على التأثير الشرقي والاتجاه إلى أفق أوسع وأرحب عن طريق الاقتباس والترجمة ودراسة طرق الإخراج الأوروبي. وإذا كان هذا التوجه قد عرف نتائج إيجابية على ضوء الفهم الجديد للمسرح الذي كان حصيلة تكوين مؤطر من لدن الأجنبي (أندري فوزان- لوكا)، فإنه لم يعكس على المستوى الفكري التطلعات السياسية والاقتصادية للشعب المغربي، وذلك ضمن منظومة ثقافية واضحة" 3.
وعموما، فإن البدايات الأولى للتمسرح بالمغرب قد ميزها أمران أساسيان: يتعلق الأول بانبثاق هذا المسرح في بداياته التأسيسية في قلب فترة الاستعمار، بوصفه أداة من أدوات المقاومة في وجه المحتل. أما الأمر الثاني فيتعلق أساسا بالأثر الأجنبي الواضح والبين على المسرحيين الأوائل في هذه الفترة بالتحديد. الشيء الذي يجعل من التطلع إلى أفق مسرحي أكثر تطورا، كان في الانتظار، ونطاق البحث عن البديل.
2-2-2: نحو تأسيس فعلي للمسرح المغربي:
يمكن اعتبار مجموعة من المحاولات الجادة تأسيسا فعليا للمسرح المغربي، ومن ضمن تلك المحاولات تجربة الطيب الصديقي المسرحية، فضلا عن مسرح الهواة:
2-2-2-1: تجربة الطيب الصديقي
يعتبر الطيب الصديقي أحد أهم رواد المسرح المغربي، إذ لم يطبع فقط بأسلوبه مجموع التاريخ الحديث لهذا المسرح، بل إنه أكثر رجال المسرح غزارة في الإنتاج، وتنوعا في الإبداع كما في العالم العربي. وقد تجاوزت شهرته حدود المغرب لتفرض وجودها في عموم الوطن العربي وبعض البلدان الأوروبية، وذلك بفضل إبداعه وقوة شخصيته، والمثيرة للجدل أحيانا 4 .
وتأريخا للتجربة المسرحية المغربية الحديثة، يعد الطيب الصديقي من المسرحيين الأوائل الذين أدخلوا المسرح المغربي إلى عهد التأسيس والنضج في التاريخ المغربي الحديث. وهكذا "إذا كانت بدايات المسرح المغربي قد ظلت في الغالب وإلى نهاية الستينات مرتبطة بالمسرح الكلاسيكي والبوليفاري والعبثي، والواقعي، فإن من علاماتها البارزة على الصعيد الفني والجمالي هو اهتمام (الصديقي) بالتراث المغربي ومحاولة الغوص في أعماقه لمسرحته واكتشاف صيغة مسرحية عربية 5 " ومغربية كذلك.
وبناء على ما سبق، يرى حسن المنيعي في تجربة الطيب الصديقي"صيغة مسرحية تحقق شبه قطيعة مع المفاهيم المسرحية الغربية، ومنها على الخصوص استلاب الفنان من لدن الفضاء المسرحي المنغلق (أي المسرح على الطريقة الإيطالية) وكذا العرض كشبه جلسة مغلقة" 6، وفي سياق ذلك اعتبرت التجربة الصديقية في المسرح المغربي من ضمن التأسيسات الفعلية في المسرح المغربي الحديث. لكن في المقابل فقد أثارت التجربة المسرحية للطيب الصديقي" جدلا مسرحيا بين المثقفين المغاربة - من جهة - وبين مثقفي الوطن العربي من جهة أخرى، بحيث نرى بعض الفرق تعارض معارضة شديدة الشكل المسرحي الذي يوظفه- فنيا- لخدمة مضمون المسرحية المقدمة. ونرى فرقا أخرى قد تبنت أفكاره، وطرق عمله في عروضها. فهو الذي طور المسرح الاحتفالي، وأثر بعمله في تقديم العرض، والتمثيل والتجربة، والبحث وللعمل المختبري على قواعد فنية،
1 - المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، حسن المنيعي، ص.7.
2 - نفسه، ص.7-8.
3 - نفسه، ص.9.
4 - دليل المسرح المغربي نصف قرن من الإبداع المسرحي بالمغرب، أحمد مسعية، منشورات دار الثقافة، المملكة المغربية، 2012، ص. 112.
5 - إطلالة على تاريخ المسرح المغربي، حسن المنيعي، ص. 12.(ضمن المسرح المغربي المسالك والوعود (كتاب جماعي)، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة ، الطبعة الأولى 2013).
6- المسرح المغربي من التأسيس إلى الفرجة، حسن المنيعي، ص.13.
نابعة من صميم الضرورة الموضوعية الراهنة للحياة التي نحياها... ومن هنا كانت أصالة التزامها وشموليتها الفكرية، بل وقيمتها العملية" 7.
وعموما فما يمكن أن نشير إليه في هذه التجربة المسرحية المثيرة للجدل كما رأينا أن الصديقي لمسرحه شكلا من أهم أنواعه المعروفة " الحلقة كفضاء سحري يخول له تقديم عرض شامل يوظف العديد من الوسائل التقنية التي تجمع بين المألوف والغريب، بين الشاعري والمبتذل، بين السمعي والبصري، بين الإنساني والشيئي. وهذا يعني أن مكونات الفضاء الايطالي (الجفرة - الكواليس/ المقصورة) لم تعد لها مجرد وظيفة معمارية، بل صارت تقوم بوظيفة ترتبط أساسا بعملية إنجاز الفرجة" 8
وفي السياق ذاته يرى عبد الرحمن بن زيدان بصدد حديثة عن تجربة الطيب الصديقي أن هذا الأخير في تجربته المسرحية " يبحث عن مسرح شعبي فيه البساطة لا البدائية، الشاعرية لا الرومانسية والواقعية لا المذهبية السياسية... (فــ) نحن أمام نوع من المسرحيات التي كتبت للشعب، ونبعت من وجدانه الجمعي، واستمدت من حكمته وأمثاله وحكاياته، ومن مغامراته البريئة وعثراته المتواضعة، من سخرياته وشطحاته الساذجة إنها تتناول المشكلات دون أن تصبح مسرحية المشكلة، وتكشف النفسيات، دون أن تكون «رواية» نفسية، خصوصا بعد أن انتقل الصديقي من مرحلة التعامل مع ربرتوار المسرح العالمي، إلى مرحلة التعامل مع التاريخ المغربي والعربي" 9
ومهما يكن من أمر، فإن الطيب الصديق منذ بداية مسيرته الفنية سنة 1953 بوصفه ممثلا مع أندري فوزان وشارل نوك في مسرحيات مقتبسة عن موليير أو بومارشي.. مرورا بإنشائه لما عرف بــ (المسرح العمالي) تحت رعاية المركزية النقابية (الاتحاد المغربي للشغل)، وتأسيس فرقته الخاصة تحت اسم (فرقة المسرح البلدي)، وبعدها (فرقة الصديقي)... إلى غير ذلك من الإنجازات البارزة في تاريخ المسرح المغربي 10 ... التي تجل الباحث يقر بوجود بصمة بارزة لهذه المسرحي بوصفة من النقط الأولى للبداية الفعلية للمسرح المغربي الحديث والمعاصر.
2-2-2-1: تجربة مسرح الهواة استطاع مسرح الهواة بالمغرب منذ فترة سبعينيات القرن الماضي (القرن العشرين الميلادي)، " أن يقدم أعمالا مسرحية استفزت وعي الجمهور والنقاد على السواء، لأنها نهجت طريقا مغايرا إن على مستوى النص أو على مستوى مواصفات العرض وخلق علاقة جدلية مع الجمهور" 11 هذا التميز داخل هذه التجربة لاحظه الباحثون على مستويين: النص والعرض.
فعلى المستوى الأول، عمد النص المسرحي في هذه التجربة إلى تجاوز أساسيات المسرح الكلاسيكي القديم بوحداته الثلاث ليصير هذا النص ذا طابع مركب" ينبذ كل تصور يندرج في نطاق التمركز العقلي الذي يجعل من النص البنية العميقة والمحتوى الرئيسي لفن الدراما..." 12 لذلك، اهتمت الكتابة المسرحية لهؤلاء الهواة بالتراث.
ومن ذلك ظهرت أشكال جديدة للكتابة الدرامية تقوم على خلق لوحات وتركيبات إيجابية تطرح العديد من المواضيع والقضايا في أماكن متعددة وفي أزمنة مختلفة ومتداخلة فيما بينها. الأمر الذي " جعل النص المسرحي يتحدد من خلال مفهوم التناص وذلك باعتبار هذا المفهوم مجموعة من العلاقات التي تربط بين النص الرئيسي بغيره من النصوص الأخرى (الغائبة) سواء كانت تاريخية أو اجتماعية أو سياسية". 13
أما على المستوى الثاني فقد اتخذ العرض عند الهواة طابعا شموليا" رغم قيامه على فنيات بسيطة في غالب الأحيان. ويرجع الفضل في ذلك إلى دور المخرج الذي يضيف إلى النص نصوصا صغيرة لتعزيز إمكانيات العرض، كما أنه يستلهم حسب قناعته بعض التقنيات الغربية كالمسرح الملحمي(بريشت) أو التسجيلي (بيتر فايس) أو الفقير (غرتوفسكي) دون إهمال عنصر أساسي وهو تحقيق الفرجة عبر ترسيخ الأشكال الشعبية والماقبل مسرحية التي تساعده
على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وتحطيم الإيهام الذي ينحصر في التقليد الكامل للواقع كما هو الشأن في المسرح الاحترافي التجاري." 14
وعموما كان لتجربة مسرح الهواة التي أضحى مجالا هاما يحتوي عناصر مسرحية مهمة لخدمة مسرح وطني، وفي سياق ذلك خصصت وزارة الشبيبة والرياضة لهذا النمط من المسرح مركزا خاصا بهذا الفن المسرحي. وبذلك استطاع أن يؤدي دورا هاما في صناعة الفرجة المسرحية ومن ثم التأسيس لممارسة مسرحية مغربية تتجاوز في أدائها نمط الاحتفالية أو الممارسات ما قبل المسرحية.
تناولنا في هذا المقال اللحظات التأسيسية الأولى للمسرح المغربي من خلال تملس لحظاته الأولى. وفي سياق ذلك، وقفنا على لحظتين أساسيتين: خصت الأولى تلك الممارسات الاحتفالية التي سبقت الممارسة المسرحية المغربية الفعلية، ثم لحظة أخرى ميزتها محاولات التأسيس الفعلية لهذا المسرح مع بعض التجارب البارزة التي تركت بصمتها المسرحية في الساحتين المسرحيتين العربية والمغربية ومن ضمنها تجربة الطيب الصديقي. ومسرح الهواة.
7- أسئلة المسرح العربي، عبد الرحمن بن زيدان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987، ص.49.
8- المسرح المغربي من التأسيس إلى الفرجة، حسن المنيعي، ص.12.
9 - أسئلة المسرح العربي، عبد الرحمن بن زيدان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987، ص.50.
10 - للمزيد من التفاصيل عن هذه التجربة المسرحية للصديقي ينظر : دليل المسرح المغربي تصف قرن من الإبداع المسرحي بالمغرب، ص: 102- 123.
11 - المسرح المغربي من التأسيس إلى الفرجة، حسن المنيعي، ص.14.
12 - نفسه.
13 - المسرح المغربي من التأسيس إلى الفرجة، حسن المنيعي،1994، ص.14-15.
14 - نفسه، ص.15-16.
وهكذا اتضح لنا أن الممارسات الاحتفالية الشعبية من قبيل (الحلقة) و(البساط) و(عبيدات الرما) شكلت ملمحا أساسيا في تطور المسرح المغربي، بل شكلت أرضية خصبة من أجل مسرح مغربي أصيل أو حداثي، لما تتوفر عليه هذه الأشكال من خصوصيات ومكونات درامية. هذا المسرح الذي تلمس طريقه للبروز والظهور على صيغة عدة أشكال مسرحية ستبرز للوجود تحت عدة مسميات كالمسرح الاحترافي ومسرح الظل والمسرح الفردي أو الممثل الواحد.
د. جلال المرابط
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!