
قبل 5 سنوات
بعيدا عن كورونا: أقواس من المسرح المغربي.. الوضعية الاجتماعية للفنان
وأنا أعد أركان القوس الثالث من سلسلة " أقواس من المسرح المغربي " حول موضوع يشغلني ويشغل المهتمين بقضايا المسرح، انتزعني انتزاعا من ما كنت أبحر فيه الفنان عبد اللطيف خمولي بعد الأزمة الخانقة التي لفته وأسرته، والمتعلقة بموضوع الإفراغ وملابساته القانونية وتداعياته النفسية والاجتماعية، والتي بات يعرفها القاصي والداني، والتي أسالت الكثير من المداد وأثارت الكثير من الجدال في الإعلام الوطني، فوجدت نفسي، بحكم الصداقة والزمالة وقرينة الشغل والإبداع التي قرنتني بالرجل لأزيد من خمس سنوات، معنيا من قريب بهذه النازلة ومنخرطا بصدق ووفاء في التضامن معه منذ ندائه الأول رفقة العديد من الزملاء مشكورين. وقد كان مبعث التضامن واضحا وجليا وكذلك كان هدفه الذي لم يتجاوز المؤازرة النفسية وإثارة الانتباه للوضعية الاجتماعية التي يعيشها الفنان المغربي والمتسمة بالهشاشة والإهمال وبعض صور الذل والهوان التي نقلها الإعلام وتداولها الناس في مواقع التواصل الاجتماعي لمجموعة من الفنانين الذين يعيشون الكفاف ويعانون من قصر ذات اليد بعد أن تكالبت عليهم الأيام وتنكر لهم الأصدقاء والأهل، وهي صور مؤلمة لا يمكن لكل ذي أنفة من المعتنقين لملة المسرح أن يقبلها أو يتغاضى عنها دون انتقاد ودون دعوة لإخراج ذوي القربى الفنية من موقف الشحاتة ومن مشاعر الشفقة التي تكرست عند الناس حول وضعية الفنان الاجتماعية. وأثارني كثيرا أن صديقنا عبد اللطيف خمولي ضل وفيا لكرامته مبتعدا ما استطاع عن أسلوب الاستجداء، مرتبطا بعزة بمبدأ الحق ومغلبا إياه على شفقة الناس، رافضا بحسم وحزم كل المحاولات، على صفاء نية أصحابها، للمساعدة المادية بمختلف أنواعها، مما جعله يضل شامخا في نظر نفسه وأسرته وزملائه، وارفا ومتماسكا بعليائه وهمته، محافظا على صورته وصورة الفنان داخل المجتمع.
إن الوضع الذي انتهى إليه الممثل عبد اللطيف خمولي يحيلنا إلى الوضع العام لمهنة الفنان والتي لم تجد بعد طريقها إلى التنظيم والهيكلة بالرغم من كل الشعارات التي بددها الكثيرون وبالرغم من التغني والتهني بقانون للفنان والمهن الفنية دخل حيز التنفيذ مطلع 2016 ولم يدخل بعد حيز الواقع. هذا الوضع المهترئ الذي يعيش فيه العديد من الفنانين والذي مات فيه العديد منهم، حسرة وغبنا، هو نتيجة طبيعية للإهمال، إهمال الفنان وإهمال مهنته ومصدر قوته، ونتيجة أيضا لتفشي الانتهازية التنظيمية والنرجسية المفرطة للقائمين على الشأن النقابي، الذين أوكل إليهم التاريخ مهمة تنظيم المهنة فنظموا أنفسهم ضدها وطوروا أساليب التحكم في الرقاب والسيطرة على منابع الدعم وتحويلها إلى آليات لإفساد كل سبل الإصلاح الممكنة.
مهنة الفنان بعد ربع قرن من التواجد ليست بمهنة، وضعية الفنان، بعد ربع قرن من نضال السفريات وتوزيع كعكة الدعم والتناوب على لجانه، وضعية من لم يبرح مكانه وأقبح، قطاع الفنون الدرامية بعد ربع قرن من استنزاف طاقة وعمر ومواهب رعيل من شباب مرحلة ما بعد زمن الهواة من دون أية نتيجة تذكر، إذا استثنينا طبعا المكاسب الشخصية. كان من الممكن، لو كان الزمان غير الزمان، والأشخاص غير الأشخاص، أن تكون حال المهنة بخير بعد ربع قرن من العمل والحب والوفاء والتسامح ونكران الذات، كان من الممكن الآن أن تكون لفناني مهن الدراما مؤسسة للرعاية الاجتماعية على غرار الصحفيين والرياضيين مثلا، والذين لم يسبقونا طبعا إلى التنظيم والانتظام، كان من الممكن الآن، وبعد نصف قرن من الجد والاجتهاد والتضحية لبسط الأرض والقاعدة لتكون المهنة وتسير في التاريخ والزمان، كان من الممكن أن ينعم بتقاعد مريح فنانو الدراما أمثال بكر والخلفي ومطاع والشحيمة والوزير وتاه تاه والبدوي والزعري وماه ماه والخالدي وزروال والحبشي والناجي والداسكوين وأديب السلاوي، والقائمة كبيرة بحجم الألم الذي يعتصرهم ويعتصرنا، وبحجم المرارة التي تبعث على الأسى. كان من الممكن لو أخطأت البداية طريقها لغير الذين يؤمنون بمبدأ واحد ووحيد " كن معي أو أكون ضدك " أن يكون الواقع غير الواقع وأن يكون للفنانين وضع قانوني ومهني واجتماعي يوازي وضعهم الاعتباري داخل المجتمع، ويعكس حجم حب الناس لهم. كان من الممكن، لو سخرت كل الوسائل والموارد البشرية والمادية والقيمة الرمزية لفنان الدراما لخدمة قضايا المهنة ولإعمال مبدئية العمل النقابي الصرف في التفاوض مع الدولة لإقرار نظام خاص لهذه المهنة، عوض الاتجار بهذه القيم دفعة واحدة لصناعة الزعامات الوهمية وبناء قصور الزجاج الفارغة، ولهندسة المؤتمرات وفبركة اللجان ومقايضة القضايا العادلة لمهنيي الدراما بمنصب داخل ديوان الوزير لاستكمال ورش الهدم الممنهج. كان من الممكن اليسير لو فتح ورش إصلاح المكتب المغربي لحقوق المؤلف، قبل ربع قرن، أن يعيش الفنان، في نهاية حياته وبعد وهن الجسد، كريما عفيفا فقط من وعلى حقوقه المادية التي تسمى مجازا الحقوق المجاورة، وهي مستحقات مشروعة بمثابة تقاعد أو أكثر بقليل، بالنظر لبث وإعادة بث الأعمال التلفزيونية الكثيرة التي شارك فيها فنانو الأداء من الرواد والتي يشاهدها عشرات الملايين من المغاربة داخل وخارج أرض الوطن. هذه حقوق ضاعت بعد ربع قرن من التواجد المخجل. كان من الممكن أن تكفي خمس سنوات فقط من العمل الدؤوب لكي يجد الممتهنون صيغة من صيغ كثيرة لتنزيل مضامين الرسالة الملكية للمغفور له الحسن الثاني الموجهة للمناظرة الوطنية للمسرح الاحترافي والتي تقضي، بقوتها القانونية، بتخصيص واحد في المائة من مداخيل الجماعات المحلية لفائدة فناني المسرح. فلنتصور ونحن نحتفل بربع قرن من ( ماذا ؟ ) لو حققنا رغبة الملك الراحل وانتظمنا تنظيما حقيقيا واشتغلنا اشتغالا حقيقيا لانتزاع حقنا من ميزانيات الجماعات المحلية عبر ربوع المملكة، كيف سيكون رصيد صناديقنا بعد ربع قرن؟ وكان من الممكن أيضا، وقبل سنوات قليلة، أن نقف في وجه القطب العمومي ودفاتر تحملاته وكتابه الأبيض، بكل ما أوتينا من قدرة على المناورة والمناوشة والدهاء والتأطير السياسي والنقابي، وبكل ما أوتينا من وضع اعتباري وقيمة رمزية ، وبكل ما أوتينا من القدرة على إيقاف عجلة التصوير التلفزيوني بحكم تمثيلنا المشروع لكتلة الشغيلة التي تتمحور حولها وتتوقف عليها عملية الإنتاج، لكننا وللأسف الشديد، وبعد خبرة ربع قرن، آثرنا أن نضع أيدينا في أيادي السماسرة والانتهازيين من المنتجين، وركننا إلى الجبن وسياسة الكرسي الفارغ، واكتفينا بضمان بعض فرص الشغل للمقربين منا والمحسوبين علينا وبعدهم الطوفان… كان من الممكن لو خصصنا جزء من حياتنا التنظيمية المقدرة بربع قرن لبناء علاقة تعاقدية مع وزارة الثقافة من أجل مشروع إصلاحي رصين، بدل افتعال الأزمات من أجل التدخل لحلها، وبدل تدبير الفائض من مشاكل الإدارة، وبدل التموقع في أول الطابور لكسب رضى المسؤولين عن القطاع. كان من الممكن أن نتجاوز الآن سياسة الدعم التي وصفت بالمرحلية والمؤقتة فصارت هي قاعدة القواعد في سلوكيات ممارستنا المسرحية. كان من الممكن أن نفخر بمهرجان حقيقي نساهم فيه كقوة اقتراحية وكشريك استراتيجي لتطويره وجعله واجهة من واجهات الدبلوماسية الثقافية، ومناسبة للاحتفال بنجاح الموسم المسرحي، وفرصة للاحتفاء برموزنا وروادنا ومبدعينا، ومحكا لتبادل الخبرات وتشجيع الكفاءات، وسوقا حقيقية مفتوحة أمام المنتجين والمخرجين للاستفادة من الطاقات الواعدة للشباب من خريجي المعاهد وغيرهم ومنحهم الفرص التي يستحقونها للعبور إلى التلفزيون الذي يفتقر إلى المواهب الحية والمتجددة ويستعيض عنها بالنكرات والنواكر من بائعات الهوى والمهرجين ومروجي النكت البخسة والحالمين بالنجومية مقابل أي شيء وكل شيء. كان من الممكن أن نباهي الدول العربية على الأقل بمهرجان وطني حقيقي يحترم كل الأذواق والحساسيات والأطياف والتنويعات الإيجابية التي يعرفها المسرح المغربي. وكان من الممكن أيضا أن نحتفي بإبداعات الرواد جنبا إلى جنب مع الشباب وأن نفرد للنقد المسرحي ما يستحقه لتحليل وتفكيك وقراءة العروض المسرحية من وجهة نظر أكاديمية، وكان الكثير من الذي يمكن فعله عوض الاكتفاء بالتمثيلية المقنعة داخل لجنة بطاقة الفنان ولجنة الدعم ولجان المهرجان واللجان والمجالس القطاعية المسكوت عنها.
رحل السواد الأعظم من جيل الرواد المؤسس وفي قلوبهم غصة الجحود والتنكر والسخط الذي يجر سخط أهلهم وأصدقائهم على واقع كان من الممكن أن يكون أفضل لو كرس تنظيمنا المهني الذي كان واحدا، بعض الوقت للاعتراف بخدماتهم ووضعهم في المكان الذي يليق بهم قبل توديعهم وبعده. هؤلاء خذلوا في حقهم وفي تاريخهم وفي ذاكرة شعبهم وسجلاته الخالدة، فمن بالله عليكم من شأنه أن يتدخل ويترافع ويناضل لكي تبقى أسماء روادنا وآباءنا الروحيين وأساتذتنا في ذاكرة الأجيال اللاحقة إن لم يكن الفنانون أنفسهم؟ من المفروض، بقوة الأشياء، أن يبادر لتأسيس مؤسسات بأسمائهم تعنى بتراثهم الثقافي والفني وتصونه وتحفظه للتاريخ، إن لم تفعل ذلك نقابة أسسوها بدمائهم وببنات أحلامهم؟ من كنا ولازلنا ننتظر منه أن يتدخل لكي تنتبه الدولة ومؤسساتها لكل هذا المحو الذي طال مشايخ مهنتنا؟ ألا يستحق هؤلاء أن تخلد أسماؤهم على شوارع المدن التي لم يعد المسؤولون يجدوا أسماء لها غير أسماء الأشجار والأزهار والأحجار والأوصاف وكل الأسماء التي بدون روح ولا دلالة وطنية أو تاريخية أو إنسانية ؟ أليس من حق ربع قرن على هؤلاء شيء من الاعتراف؟ ألا تعني أسماؤهم لنا شيئا، بعد ربع قرن من الاحتكاك بهم والتعلم منهم والحديث بلسانهم والاشتغال على أعمالهم؟ ألم تمت هذه الأنفس وتتبعها الأسماء دون تدوين آثارها الكثيرة والمؤثرة ؟ ألا تعني لنا هذه الأسماء شيئا الطيب الصديقي، محمد حسن الجندي، عبد الرزاق حكم، زكي الهواري، العربي الدغمي، عبد الصمد الكنفاوي،الطيب العلج، حمادي التونسي، خديجة جمال، سعيد عفيفي، حسن الصقلي، أحمد العمري حمادي عمور، محمد بلقاس، المهدي الأزدي، أمينة رشيد، فاطمة بنمزيان، عزيز موهوب، أحمد السعري، المحجوب الراجي، عبد الله العمراني، وأسماء كثيرة أريد لها أن تسقط من ذاكرة الأجيال.
نقف الآن على طرف ربع قرن من الانتظام، نتأمل واقعا سار فيه المؤسسون إلى حتفهم ويتخبط فيه اللاحقون من جيلي الرواد والقنطرة في مشاكل مهنية واجتماعية لا حصر لها، بينما يتغنى بوهم الأمجاد ويرقص على الجراح من يقتات من ارتباك المشهد ويتغذى على خلط الأوراق وتضليل السذج من بني مهنتنا، ليبقى شعار المرحلة الحقيقي والملموس، نصف قرن من الإهمال … ويستمر.
بقلم المخرج والكاتب المسرحي عمر الجدلي
ملحوظة : "الرأي يلزم موقعه ولا يلزم الموقع"
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!