قبل 5 سنوات

المعرض التشكيلي لمسرح جوكندا بمراكش.. إبداع وسفر

بمناسبة ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال 11 يناير، نظمت جمعية فرقة مسرح جوكندا بدعم من المجلس الجماعي لمراكش ومجلس مقاطعة المنارة لمراكش معرضا فنيا تشكيليا جماعيا لنخبة من الفنانات والفنانين بفضاء العرض بالمسرح الملكي بمراكش.

تجارب متنوعة في المضامين وفي الشكل وفي الأساليب لكنها توافقت في البعد الإفريقي.. نسرين ، وسعاد ثقيف، وعبد الجليل مسعد، وعبد الرحمان جوهري، ورجاء بلحيط، ووفاء أبو شادي.. إذ حملت ريشة كل فنانة وفنان لمحة جمالية افريقية، فأضحى هذا المعرض صورة جمالية، غذت المشهد التشكيلي بطقوس افريقية خاصة مع حضور عدد من الأفارقة حاملين أعلام أوطانهم إلى جانب العلم المغربي، ليزيد ذلك المشهد لوحة إفريقية أخرى شدت أنظار المتتبعين.

بعد حفل الافتتاح وعزف موسيقي على شرف الحضور الذي غصت به قاعة العرض، قدم الناقد د. محمد البندوري ضيف شرف هذه الدورة قراءة مباشرة في أعمال الفنانين على مرأى من أعين الحاضرين، فحمل كلامه القوة التعبيرية من خلال فن الكولاج والمكسيد للفنانة المتألقة نسرين العزيزي التي انتقلت من الفن الواقعي وفن البورتريه إلى فن الكولاج والمكسيد والتجريد بأسلوب فني جديد، طعم المسار الفني للمبدعة بآليات تشكيلية جديدة قوامها رؤية فنية جديدة، لتضحى لوحاتها قيمة جمالية تضيف الجديد على الصعيد المحلي والوطني، قياسا بما طرحته من قيمة جديدة فنيا، وبما وظفته من ألوان مبهرة وأشكال جمالية مبهجة، وكولاج متناسق، ما ينتج عنه اقتران العملية الإبداعية بالبناء على ملمس جمالي متنوع المضامين، مما يفاجئ بنبضات تحولية، وهو ما تنتجه صناعة الكتل الكولاجية وتنوع أشكالها، ليمسي جوهر الجمال لديها، مادة ميكسيدية لصيقة بالعملية التشكيلية المعاصرة، وتلعب فيها التقنية المستعملة دورا محوريا، فتروم لمسات فنية، يكتنفها الربط التقني بين مختلف العناصر من ألوان متنوعة، وأشكال مختلفة ومواد وسائطية، وهي كلها مواد أيقونية للتعبير بتصورات فنية عميقة الدلالة، وبعلامات تروم من خلالها التعبير بانطباع ذاتي، ووفق خطاب حسي، ومنطلق ابستمولوجي. وهو ما ينم عن تجربة نسرين العزيزي في هذا التوجه الجديد الذي يكرس الوعي العميق بما تقتضيه الحداثة والعصرنة؛ ويؤكد تألقها ونجاحاتها الفنية المتوالية.

وبخصوص فن الكولاج دائما، أكدت الفنانة المقتدرة سعاد ثقيف الوفاء الأمثل لأسلوبها الكولاجي الانطباعي مع قدر وافر من التطور والاستيزاد في المقومات الجمالية. أعمال ذات قوة تعبيرية، وذات ارتباط وثيق بالموروث الحضاري المغربي في صيغ فنية تشد الانتباه إلى تفاصيل المواد التراثية المشكلة من الخيوط والصدف ودرر العقيق وكل رموز القفطان المغربي العريق الذي يتم توظيفه بشكل غير معتاد، وبأسلوب فني متفرد يبعث الجديد. ما يعطي قيمة أكبر لأعمالها الفنية ويجعلها تؤكد استقلاليتها في هذا المسلك المبهج. إنه اكتشاف للغتها الفنية الكولاجية الرائقة، وهي متفوقة إلى حد كبير في المزج بين عدد من المفردات التشكيلية التي يتشكل منها الفضاء الناعم، وبين عناصر التراث وبين الألوان، الشيء الذي يقوي أسلوبها، ويعضد الطرح الفني المبني على المكسيد في أبهى صوره، وفي أحلى جمالياته. ومن هذا المنطلق فإن أعمالها التي أثثت مساحة في العرض؛ تشكل بؤرة جمالية تهز مشاعر القراء، وتشكل كذلك محطة فاصلة في مسيرتها الفنية، تقوي أواصر التقارب بين الموروث الحضاري المغربي والتشكيل المعاصر، وتطرح مسلك فني ينساب بالرشاقة والانسجام ويتلاءم مع روح العصر. إنه توجه يدل على القيمة الكبيرة للمبدعة فنيا وجماليا ومعرفيا.

وشكلت أعمال الفنان المتألق عبد الجليل مسعد توظيفا قويا لأشكال فنية نابعة من الواقع التراثي الحضاري، إذ ظل وفيا لأسلوبه الإبداعي الذي امتلك حولياته الفنية وممتداته الجمالية، فأضحت أعماله الراقية قوية بارزة في الساحة التشكيلية الوطنية. لأن ما يقدمه المبدع يعد ابتكارا جديدا بمقومات حضارية وأسس فنية معاصرة، فهو يبلور الواقع بأسلوبه الخاص وفق مسالك فنية ذات تركيبات لونية وشكلية يتلقفها الجمهور الواعي بانبهار، فهو الفنان الذي يعتني إلى حد كبير بقيم السطح لما لها من أهمية في بعث الجمال؛ وتخصيص جمال الألوان؛ حرصا على القيمة الجمالية للون المعاصر، وهو العارف بمقومات الفهم السيكولوجي للون، ما يقوده إلى عمليات توظيفه مع الأشكال المتنوعة باعتماد التقنيات المعاصرة بتدفق فني مشحون بالإيحاءات والدلالات، فتصبح أعماله مذهلة الألوان والأشكال وحاملة لرزمة من المعاني. إنه تَشَكل قوي يرسم من خلاله المبدع صيغا جمالية حية، وقوة تعبيرية تخول له السير في المزيد من التخصص وولوج العصرنة الفنية العالمية من الباب الواسع.

  واستند الفنان التشكيلي عبد الرحمان جوهري في عرضه على مقومات تجريدية على نحو من الفطرية والانسيابية في تشكيل الفضاء بنوع من الحرارة القوية والوهج الفني، مما جعل المادة التشكيلية لديه في إثارة قوة داخلية، ليُسائل وحدة الموضوع. لذلك شكل الخطاب في أعماله رؤية مسعفة في تأمل الأشكال والألوان من زوايا متنوعة، وإدماج الحركة في بناء الشكل واللون. إن هذه التشكيلة التجريدية لديه تكتسي وظيفة بنائية ودلالية تنسجم مع الهواجس بوصفها توجها نحو معادلات غامضة تنتهي إلى ما يثير الدهشة في لجج من الألوان الصادمة.  يتضح هذا الاجتهاد التشكيلي من خلال الاستعمال المفرط للحركة ومن خلال  ألوان ساخنة يوظفها المبدع وفق رؤاه الفنية بتقنيات عالية وبأسلوب نوعي، وتماسك بنائي مكتمل المعالم، وهو ما تفصح عنه بعض  المعاني والدلالات التي تنتج عن السياقات الجمالية وعن التركيب العلاماتي. وبذلك تعد أعماله نسيجا إبداعيا عميقا في المضامين ومن حيث المادة التجريدية، التي تطبعها الإيجابية المطلقة. 

  ورامت أعمال الفنانة رجاء بلحيط عملية توظيف متقن بتشكلات فنية يطبعها التوليف والانسجام، والموازنة بين التركيب والألوان والمساحة، وبأسلوب تعبيري انطباعي خاص، لتذهب في بعدها الفني حد التوق إلى ملامسة بعض من التكعيب، وتلخيص نتوءاته في أشكال ذات جماليات رائقة. وهو ما يجعل أسلوبها عملا ابتكاريا متفردا، يتخطى حدود الجاهز إلى أسلوب أكثر عصرنة، تتوزع فيه الأشكال التعبيرية والعناصر اللونية التي تغذيها المادة الفنية والتقنيات العالية، واستعمالات موتيفية، وعلامات تنوعية، وتوظيفات دلالية، وطرائق تعبيرية جديرة بالمتابعة، وإرساء تشخيصات تشكيلية دلالية في عمق التشكيل. الأمر الذي يشكل أسسا فنية تمنح أعمالها جماليات فنية، وتكشف عن عملية التأسيس لمسلك تشكيلي يخضع لتطلعات المبدعة.  فلوحاتها المعروضة ضمن هذه الكوكبة المتميزة قد حفلت ببصمات جمالية، واتسمت بفسحات فنية جعلتها تقيس درجات الكثافة وتوزيع المساحة بشكل منظم، وتشكيل بؤرة انطباعية تتأرجح بين الواقع والمثال. ويعد هذا الإنجاز من أوجه براعتها التشكيلية التي تعد بالكثير.

  وقدمت الفنانة وفاء أبو شادي في هذا المعرض الجماعي مشهدا يمتح من الواقعية بعض الأسس الفنية والجمالية، ولكن بصيغ أكثر شكلانية، فقد حاكت بعض التجسيمات برؤيتها الفنية لتعمق من طبيعتها الجمالية وإن حافظت بشكل موفق على الموضوعية والتجرد الذاتي أحيانا، لتبدي قدرة إبداعية في سلك مسار دقيق المعالم. فالجمال الأخاذ في أعمالها ينبع من قوة التنويع وجمال الصياغة الفنية والدقة في وضع اللون والحرص على الملمس بقدر وافر، لتمييز سطح المادة التشكيلية، ما يُنتج نوعا من النعومة في لوحاتها ونوعا من الانتظام. إنه مسار فني سيُدخل المبدعة في منعطف فني جديد يشكل لديها محطة نضج فني لتحقيق رؤية جمالية من منطلقات تشكيلية واقعية. فمجمل أعمالها قد شكلت رؤية واقعية بصيغ جمالية محكمة بنسقية متوالية من التعبيرات المفعمة بمجموعة من الدلالات الصورية، والمغازي العميقة، والأنساق المختلفة، التي يتم استجلاؤها سيميوطيقيا، وهو أداء وإن كانت تتبدى فيه تجربة المبدعة، فإنه يُنتج اقتران العملية الإبداعية بالبناء على ملمس فني وجمالي يعد بمستقبل تشكيلي متميز.

هذه مجمل القراءات المباشرة التي قدمها د. محمد البندوري والتي تم بعدها الاحتفاء بالفنانين وتوزيع شواهد تقديرية عليهم على نغمات موسيقية رائقة. كما تم الاحتفاء ببعض الرموز كالفنان المسرحي محمد زروال وضيف شرف الدورة محمد البندوري والشاعرة المقتدرة أمينة حسيم وعدد من الشخصيات.

د. محمد البندوري

لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *