قبل 3 سنوات

أتحدى ذاك الذي یقول إن العرب كانوا أصحاب خط رديء

تدل بعض أشعار العرب الجاھلیـین على أنھم كانوا عارفین بأمور الخـط، حیث میزوا بین الخطـوط، وحددوا أشكالھا، وعرفوا أدوات الكتابة، مما یـدل على وعیھم بتدوین أشعارھم وتخلیدھا. فھم لم یكونوا یكتبون فقط؛ وإنما كانوا كذلك یزینون الكتابة ویجملونھا، فعندما نقرأ الكتاب المنمق والكتاب المرقش والكتاب المنمنم والكتاب المنمق، ونعلم أن المعلقات كانت تُكتب بماء الذھب؛ فھذه من مظاھر الزینة والجمال، بل وإنھا تدل على الاعتناء الكبیر بالمجال الجمالي في الكتابة عند الجاھلیین. فلا یمكن أن نقصي المنحى الجمالي في ھذه الفترة ونتھم الخط بأنھ كان ردیئا، أو أن العرب كانوا لا یكتبون كما ورد عند البعض.

إن الذین یصدرون ھذا الحكم لم یطلعوا على التراث العربي قبل الإسلام، ولم ینتبھوا إلى ما ورد بھذا الخصوص. للأسف أن عامل الزمن یؤثر على الصحف التي غالبا ما تبلى فتندثر، أو تُمحى فتضیع محتویاتھا. وإلا كنا أمام أعمال خطیة ذات حسن وجمال. لكن عندما نتفحص النقوش التي اكتشفت قبل الإسلام بقرون، نجد ذاك الجمال، وذاك التركیب والشكل الذي یمنح الإبھاج الخطي. فنقش النمارة مثلا الذي وجد في مدفن امرؤ القیس یتخذ عدة أوصاف جمالیة علما أنه يضرب بجذوره في التاریخ القدیم. وقد تأثر بفعل العوامل الطبیعیة وبفعل عادیات الزمن، ولكنه بالرغم من ذلك یُبرھن على جمال الخط العربي منذ ذلك الوقت. فھو مدعاة للقول إن العرب میزوا بین الخطوط والخامة، وتحدثوا عن عن مباعث الجمال في الخط قبل قرنین من الزمن على الأقل قبل الإسلام، وتفصح أشعارھم عن ذلك بوضوح. یقول امرؤ القیس في مطلع قصیدة لیالي الھوى:
لمن طلل أبصرته فشجاني ** كخط زبور في عسیب یماني
فالشاعر قد بنى صورة الطلل بجرید النخل الذي صار لوحا متقادما، وبدت على صفحته كتابة مخطوطة تشبه خط الزبور. وأنشد :
أتت حجج بعدي علیھا فأصبحت ** كخط زبور في مصاحف رھبان
وقال أیضا:
فعادى عداء بین ثور ونعجة ** وبین شبوب كالقضیمة قرھب
ومنھم حاتم الطائي(605م) یذكر في مطلع قصیدة یفخر فیھا بنفسه:
أتعرف أطلالا ونؤیا مھدما ** كخطك في رق كتابا منمنما
ومن ھؤلاء أیضا النابغة الذبیاني الذي تذكر المصـادر القدیمة أنه كان یحـسن الكتابة ویجملھا وأن قصائده الاعتذاریة إلى النعمان بن المنذر- بعدما حدث بینھما من قطیعة- كان يكتبھا ویرسلھا إلى النعمان في شكل جمیل. ومن الشعراء الذین كانوا یجیدون القراءة والكتابة: لقیط بن معمر الإیادي (380م)، ذكر الأصبھاني أن الشاعر كتب لقومھ قصیدة یحذرھم فیھا بطش كسرى. ومن شعر سلامة بن جندل:

لمن طلل مثل الكتاب المنمق**خلا عھده بین الصلیب فمطرق
ومما یدل على ھذا التنوع، أن العرب كانوا كذلك یكتبون المعاھدات والأحلاف. یقول الجاحظ في باب فضل الكتابة وتسجیل المعاھدات والمحالفات:" وكان العرب في الجاھلیة یكتبون المواثیق والعھود والأحلاف. ووصفھم بأنھم كانوا یدعون في الجاھلیة من یكتب لھم ذكر الحلف والھدنة تعظیما للأمر، وتبعیدا من النسیان. وقد مثل الجاحظ لذلك بشعر الحارث بن حلزة الیشكري في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قـد ** ـم فیه العھـــود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وھل ینــ ** قض ما في المھارق الأھواء

وھناك الصكوك التي یكتبون فیھا حساب تجارتھم، وكذلك الصحف التي یسجلون فیھا الدین، وغیرھا كثیر مما لا یتسع المجال لذكره وھو یدل على أن العرب منذ جاھلیتھم لم یعتمدوا الجانب الشفھي فقط، وإنما كانوا كذلك ویكتبون ویزینون كتاباتھم ویمیزون بین الخطوط فیعرفون خطوط مصاحف الرھبان وخطوط الأشعار وخطوط المعاھدات والتقایید الیومیة. ویمیزون كذلك بین المواد التي یكتبون علیھا ویمیزون أشكالھا، منھا القضیم والرق والعسیب أو سعف النخیل وغیر ذلك.
فقد كان مجال الكتابة فارضا نفسھ بجمالھ. فجمال الشعر في المعلقات وفصاحته وبلاغته لا یوازیھا إلا كتابته المنمقة بماء الذھب. فقد عرفوا التنمیق وذكروه في أشعارھم وعرفوا المنمنمات وعرفوا الرقش.. وبالرغم من عامل الزمن وطبیعة البیئة الصحراویة التي تجعل الحفاظ على الصحف والدفاتر صعبا، فإن ھناك مادة خطیة – بالرغم من قلتھا- تظل ذات أھمیة بالغة، إذ بالرجوع إلیھا وإلى المصادر القدیمة یتبدى أن الخطوط التي كتب بھا شعراء الجاھلیة أو كُتابھم كانت من نوع الخط العربي القدیم والخط المسند الحمیري والخط الحجازي، ویتمیز كل شكل بخاصیات معینة إذ به تشكلت كل المواد الشعریة وغیرھا مما تستوجب كتابته وتدوینه وتوثیقه في الصحف أو الدفاتر من معاملات وسكوك وعقود وغیرھا.

د. محمد البندوري

لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *