قبل 3 سنوات
روبورتاج: “أطلس جولف”.. مركز ثقافي بمراكش تنيره نجوم السماء
"الجمال ليس في الوجهة وإنما في الطريق"، عبارة قد تضيع عن معناها وأنت متجه نحو المركز الثقافي "أطلس جولف". تكاد تجزم أنك ضللت الطريق، فلا هدوء المكان ولا نباح الكلاب يتماشى مع توقعاتك، لكنك تصر على مواصلة المسير إيمانا منك بأن المكان الفارغ تملؤه الحياة، حياة انبعثت من جديد في دواخلك فور وصولك الوجهة المقصودة. خطوات معدودة كانت كافية لتدرك أن الجمال الذي لم يكن في طريقك استولت عليه وجهتك.
عودة إلى ملايين السنين.
كلما حاول التاريخ خداع الإنسان والانفلات من بين يديه، يحكم هذا الأخير قبضته عليه مؤكدا أنه أشد مكرا وذكاء، وهو الذي لا تمر عليه مرحلة من مراحل التاريخ إلا ودونها، محتفظا بها إرثا لمن يأتون بعده. تلك الحكمة التي تتملكنا و نحن نلج هذا المكان. ملايين السنين قبل اليوم، مقيدة أمامنا داخل زجاج لامع، مشكلة متحفا، يضفي على المركز الثقافي "أطلس جولف" المخصص لنشر الثقافة العلمية، بعدا آخر يستمتع كل زائر باستكشاف ثناياه.
يأخذنا "عبد الواحد" بكل حماس وهو المكلف بإدارة المتحف، في جولة لسبر أغوار المكان، والتعرف على عناصره، يطلب منا الانتظار للحظات قبل إنارة المتحف. نور على نور، ما إن اشتعلت الأنوار حتى تاهت الأنظار، وأثقلت التساؤلات الأذهان، واشتدت رغبتنا في استكشاف المكان.
صخور، ومستحثات، ومعادن، وأحجار بركانية، ونيازك، كلها أسرار لملايين سنين خلت، يحتفظ بها المكان لتزين جنباته، ولتشكل لوحة تشكيلية لكل زائر. لحظة صمت عارم تسود المكان، يقطعها نداء "عبد الواحد"، ليشرع في الحديث عن كل مكونات المتحف وتاريخه.
استغرق "عبد الواحد" في الحديث عن كل ما أدركته أعيننا دونما توقف، بلغة رزينة يضفي عليها مصطلحات علمية باللغة الفرنسية، التي يبدو أنه يتقنها، ورغم ذلك فلم يخف تحفظه على استعمالها مع المغاربة، و التي يقول عنها"إنها لغة لا تزال متداولة في المغرب والدول الناطقة بها فقط". تفاجأنا بدقة معلوماته، فقد كان يتحدث عن كل مستحثة بتفاصيلها الصغيرة، وكأنه عايش تلك الفترة التي تقدر بملايين السنين حسب اعتقادنا، قبل أن يقودنا "عبد الواحد" إلى أقدم مستحثة في العالم، تسمى "Stromatolithe" والتي يعود تاريخها لأكثر من ثلاثة مليار ونصف المليار سنة. واصلنا اكتشاف المكان، وكلما توغلنا أكثر في تفاصيله، نتحسر على مركز ثقافي من هذا الحجم يغني المدينة الحمراء لكن لا يحظى بما يستحق من تقدير، فلو صادفت هذه القطعة الصغيرة من الحصى في طريقك، لركلتها بعيدا، من منكم سيصدق أن هذه القطعة عبارة عن نيزك صغير؟ قيمته تساوي ضعف قيمة الذهب 40 مرة، لأنه قادم من كوكب المريخ، عن هذا الموضوع يحدثنا "عبد الواحد" قائلا »الأشياء النادرة دائما ما تكون صغيرة وثمينة فليس في كل مرة يسقط نيزك من المريخ، آخر مرة حدث ذلك كان عام «.2011
لم يوقف "عبد الواحد" عن الحديث، سوى مكالمة على هاتفه، اضطرته لتركنا بضع لحظات، فكانت فرصة جيدة للاتقاط الأنفاس، بعد الكم الهائل من المعلومات التي تلقينا بعضها، بينما لم نقو على استيعاب الكثير منها. عاد إلينا "عبد الواحد" ليستأنف حديثه، لم يبخل علينا بكل معلومة تدور في ذهنه إلا واسترسل في شرحها وتفسيرها، بل ويضعها في قالب واقعي على شكل مثال حي، حتى يتأكد من أننا استوعبنا الفكرة كما يحتفظ بها ذهنه، ثم يلقي بنظره إلينا متطلعا، فنلبي النداء بدورنا ونومئ برأسنا، إشارة تكون كافية في كل مرة ليستأنف عبد الواحد كلامه مرة أخرى، وهذه المرة أوجز لنا مراحل تكون المستحثات انطلاقا من موت الحيوان أو النبات وانتهاء بعثور الإنسان عليها.
"ذهب الحماق" أو حينما تتحول كنوز الأرض إلى حكاية
لا شك أن لكل عنصر داخل هذا المتحف، حكاية خاصة، نسجها التاريخ أو الإنسان نفسه، منها الذي لايزال متداولا، ومنها الذي ضمرته الأيام والسنوات، وداخل هذه الحكايات تكونت حكايات أخرى. بين الأساطير والحقائق يحكي لنا عبد الواحد عن حجر يسمى "ذهب الحماق" أو "الذهب الكاذب"، وهو معدن "البيريت "، خليط بين الحديد والكبريت، يشتهر بلونه الأصفر وبريقه المعدني، الذي يشبه إلى حد كبير الذهب، ولذلك يخلط العديد من المنقبين غير الخبراء بين المعدنين، فيحدث أن يعثر أحدهم عن "البيريت"، فيهرول فرحا معتقدا أنه عثر عن الذهب، حتى يصاب بالجنون، ومن هنا جاءت تسمية "ذهب الحماق". وهو يحدثنا عن الأحجار أشار إلى أنها على مر السنين، كان ولازال لها تأثير على جسم الإنسان ونفسيته، فالنحاس مثلا، يعالج آلام المفاصل حسب قول"عبد الواحد"، ولهذا كانت النساء قديما، يقيدن أيديهن بعدد كبير من أساور النحاس، فدورها لا يقتصر على التزين فقط، بل يتعداه إلى العلاج، لهذا نجد هذه الأساور النحاسية اليوم، متوفرة حتى داخل الصيدليات. وعديدون هم من لا يحصرون دور النحاس في علاج آلام المفاصل فقط، بل يعتقدون أنه له فوائدا أخرى كثيرة، كتنشيط الدورة الدموية، وتعويض مادة النحاس غير المتوفر في الجسم، وعلاج فقر الدم، وحتى طرد العين. ومنهم من يستعمل الملح الصخري الذي أكد لنا "عبد الواحد" أنه يطرد الطاقة السلبية من المنزل، فكان يستعمله أجدادنا القدامى، إذ كلما اشتدت الصراعات واشتعل فتيل المشاكل داخل المنزل، يضع أهله الملح الصخري، معتقدين أنه سيبعد عنهم الشرور وكل ما هو سلبي.
استمر "عبد الواحد" في الحديث عن الصخور وربطها بالحكايات، إلى أن وصل بنا إلى الأحجار الكريمة، وعنها قال "الحمد لله أن هذه الأحجار لا توجد في بلدنا المغرب"، استغربت لقوله، أليست تسمى بالأحجار "الكريمة"؟ أليست هي نفسها الصخور التي تساوي آلاف الدولارات وتهتز قلوب الناس بمجرد رؤيتها؟ لم أفهم قصد "عبد الواحد"، فطلبت تفسيرا لما قاله، وهنا شرع في سرد أسماء الدول التي تحوي هذه الأحجار الكريمة، مبرزا أنها كلها دول فقيرة جدا أو تعاني من مشاكل وحروب، فمثلا الزفير أو الياقوت الذي يعتبر من الأحجار الكريمة الثمينة، يتواجد بكثافة في جنوب افريقيا، هذه الأخيرة تتخبط في مشاكل عديدة كما ذكر "عبد الواحد"، وكذلك بدولة مدغشقر، وهي الأخرى تعتبر من أفقر الدول حول العالم. البرازيل والهند أيضا اللتان تتوفران على أحد أفخم وأجمل الأحجار الكريمة، الزمرد، تعيشان فقرا مدقعا ومشاكل كبيرة، وتابع بالقول "ليس كل الدول تستفيد من هذه الأحجار الكريمة، عدد قليل منها فقط يفعل ذلك"، لحد الآن لم أفهم مقصد "عبد الواحد" هل هي لعنة الأحجار الكريمة تصيب دولا دونما أخرى؟ أم أنه كان يقصد حسن استغلال هذه الثروات من قبل دول وسوء تدبيرها من الدول الأخرى؟ وحده "عبد الواحد" يحتفظ بالإجابة.
أكبر تليسكوب في شمال افريقيا
من منا لا يرغب في النظر إلى السماء ليلا ومشاهدة النجوم وهي ساطعة، والقمر وهو بازغ، والشهاب وهو ثاقب، لتفيض عليك حالة من الهدوء والسكينة، يتبعها تأمل في الكون وأسراره، وفضول وشغف لاستكشاف عالم يبدو غامضا، كل هذا أصبح ممكنا وأكثر، عبر أكبر تليسكوب في شمال افريقيا.
انتقلنا من عالم المستحثات والمعادن، إلى عالم الفلك والنجوم، ومن الطابق الأول نحو الثاني، وعبره ودعنا عبد الواحد ولو إلى حين، واستقبلنا "سبيل محمد"، وهو أستاذ متخصص في علم الفلك بجامعة القاضي عياض، والمكلف بالجانب الفلكي بالمركز الثقافي، يقودنا إلى قبة فلكية حيث يتواجد التليسكوب والذي من خلاله يمكن رصد الكواكب والمجرات داخل وخارج المجموعة الشمسية، أعلى هذه القبة توجد فتحة تتحرك حسب الهدف المحدد من طرف التلسكوب، فتنفتح فاسحة له المجال لرصد الهدف المنشود، أما "سبيل" فبضغطة زر واحدة عبر نظامه الإلكتروني المتطور، أمر بأن تفتح القبة فجوتها للتلسكوب، وكذلك حدث في بضع ثوان، ولتتضح لنا الرؤية أكثر، حدد "سبيل" نجمة تسمى "الطائر" كهدف للتلسكوب، فاتجه الأخير تلقائيا نحو هذه النجمة ثم توقف، ولسوء حظنا لم نتمكن من رؤية النجمة عبر التلسكوب بسبب الضباب الذي كان يغطي السماء.
يستمد هذا التلسكوب قيمته كونه أكبر تلسكوب في شمال افريقيا، نظرا لكبر حجم قطره البالغ ستين سنتمتر، وكذلك لكلفته الباهظة، فلا تقتنيه سوى كبريات الجامعات والمراكز عبر العالم، وفي الجهة المقابلة يوجد تلسكوب آخر أقل حجما، وهو مخصص للأطفال، كذلك يوجد تلسكوب لاسلكي وهو الأول من نوعه في المغرب، إذ من شبه المستحيل إدخال هذا الجهاز إلى المغرب، لدواع سياسية وعسكرية، فعن طريقه يمكن التصنت على المحادثات العسكرية التي تجري عبر "الراديو"، فهو يعنى بالتقاط موجات الراديو المنبعثة من الشمس، ومناطق تكوينات النجوم، ونواة المجرات وكذلك الدراسات الكونية، وغيرها من الظواهر الفلكية، وعن هذا الجهاز يقول "سبيل" بعد أن رسم على وجهه ابتسامة تترجم طموحا صادقا »نتطلع في قادم الأيام لسماع الأصوات التي تصدرها الأجرام السماوية كالشمس عبر هذا التلسكوب اللاسلكي. «
ثمين و نافع .. لكن من ينتبه؟
أكثر ما ثار انتباهنا منذ أن وطأت أقدامنا المركز، أننا كنا الزائر الوحيد ، وعلى امتداد الساعات اللائي قضيناها هناك، لم يدخل زائر واحد المكان، ساورتني الشكوك فقررت استفسار "عبد الواحد" عن السبب، فكانت الإجابة أن قلة قليلة من تهتم بهذه الثقافة، فالكثير لا تستهويهم مثل هذه المراكز ، وتابع قائلا "حتى نكون واقعيين العديد من الناس يخافون دخول مثل هذه الأماكن"، في إشارة إلى أن هناك من يعتقد أنه لا يناسب مستواه، لذلك ينفر منه، وهناك من يجزم أن تذكرة هذا المركز لا بد أن تكون مكلفة، في حين أن كلفة زيارة المتحف لا تتجاوز عشرون درهما، بينما فئة أخرى لا تعلم بوجوده أصلا وهو الواقع وسط مدينة مراكش، عن الموضوع يروي لنا "سبيل" قصة تلامذته سابقا، القاطنين على بعد كلمترين أو أقل من المركز، وليست لديهم أدنى فكرة عنه ولا عن مكانه.
في مركز "أطلس جولف" الثقافي، حيث يمتزج الماضي بالحاضر، وتتداخل عناصر السماء بعناصر الأرض، وتصدح نجوم السماء ببريقها، فترد أحجار الأرض بندرتها، بين كل هذه التناقضات الجميلة، لا يسعك سوى أن تجلس مستمتعا وكأنه المشهد الأخير من حياتك.
إلياس أبو الرجاء
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!