قبل 5 سنوات

عباس أرحيلة يكتب عن بلوى كورونا وأرصدة الإسلام المستمدة من الطاقة الإيمانية

لقد ابتليتْ أممُ الأرض ببلوى (كورونا)، وحارت العقول فيما تنقله النَّشرات، وترصده (الكاميرات).
سؤالان محرجان؛ أولهما: ما رصيد هذه الأمم من طاقات روحية، تسترشد بها في مصابها، وما آل إليه أمرها؟ وثانيهما: ما مرجعياتها من عقائد أو فلسفات تلجأ إليها في التفاعل مع ذواتها في مواجهة الموت؟ أقول: ما أحوج أمم الأرض اليوم أن تَطَّلع على ما تختزنه أرصدة الإسلام من حقائق في فهم مثل هذه المواقف، فلا تهزمها (كورونا) أو غيرها! وجوهر تلك الأرصدة مٌستمدٌّ من الطاقة الإيمانية التي يبثها في المؤمنين به؛ إذ هم في معية الله؛ لا يخامرهم يأس إذا مستهم هذه الشرور لغاية من غايات قدره في خلقه؛ بما تستقيم به حركة وجودهم في الحياة.
من هذا الذي حَكَمَ على سكان الأرض باللجوء إلى مساكنهم حينما نزلت بهم كارثة (كورونا)؟ من صاحب هذا الأمر الذي يقضي أن يلجأ أغلب بني آدم إلى السكون والسكينة والمسكنة ؟ من أصدر هذا الحكم عليهم باللجوء إلى ملاجئهم والاختباء بها، فلا يغادرونها إلا إذا ضجَّ عويل بطونهم، أو زارت (كورونا) أحدهم؟ لله ما أعجب ما يغتر به عقل الإنسان في بحثه عن الأسباب التي كانت وراء ما جرى ويجري في شأن (كورونا)! فترى هذا العقل ينقاد إلى أقوال من اعتُبروا خبراء اقتصاد؛ بزعمهم أن الأمر يرجع إلى التنافس بين (أمريكا) و(الصين) حول من تصبح له القوة الأولى في العالم، ومن يقود هذا العالم اقتصاديّاً؛ وكأنَّ سر ما يجري من رعب وهلع يعود في حقيقة إلى هذا الصراع بين القوتيْن! ولو كان هناك مسلمون حقا من بين أولئك الخبراء؛ لقادهم علمهم إلى أن ما حصل من نازلة ( كورونا) هو بقضاء الله وقدره أولاً وأخيراً، وأن اليقين بهذا يجب أن يكون قبل النظر في الأسباب التي كانت وراءها الطبيعة التي خلق الله عليها الإنسان. قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا. إِنَّ ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22]. وقال سبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن:11]. أكان يمكن أن يكون ما حدث وما يحدث الآن بفعل (كورونا) خارجاً عن علم الله وقضائه وقدره؟ ومن خلق الزمان في أزليته غيرُ الله؟ فهو من علم ما كان وعلم ما يكون وما سيكون، كما هو مقرر. ومعلوم أن الإيمان بما قدَّر وقضى من أصول الإيمان. فهو من حَكَمَ بهذا، فلا شيء يقع في الكون، من خير أو شر، إلا بمشيئته. ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل﴾ [ الأنعام: 102]. فهو سبحانه خالق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، حفيظ، رقيب… ولْنقرأ ما كتبه ابن قيِّم الجوزيَّة ( 691 – 751) أحد العقول النيٍّرة في تاريخ الفكر الإسلاميّ ما يلي، قال: « إذا جرى على العبد مَقْدُورٌ يكرَهُهُ، فله فيه ستة مشاهد: أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدَّره وشاءَه وخَلَقَه، وما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن. الثاني: مشهد العدل، وأنه ماضٍ فيه حُكْمُه، عَدْلٌ فيه قضاؤُهُ. الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمتَه في هذا المقدور غالبةٌ لغَضَبِهِ وانتقامِهِ، ورحمتُهُ حَشْوُهُ. الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمتَهُ سبحانه اقتضت ذلك؛ لم يُقَدِّرْهُ سُدىً، ولا قَضَاهُ عَبَثاً. الخامس: مشهد الحمد، وأنَّ له سبحانه الحَمْدُ التامُّ على ذلك من جميعِ وجوهِهِ. السادس: مشهد العبودية، وأنه عبد محضٌ من كل وجه تجري عليه أحكامُ سيِّده، وأقضيتُه بحكم كونه مِلْكَه وعَبْدَه؛ فيُصَرِّفُه تحت أحكامِهِ القَدَرِيَّة، كما يُصَرِّفُه تحت أحكامه الدِّينيَّة؛ فهو مَحَلٌّ لجريان هذه الأحكام عليه». الفوائد، تحقيق: محمّد عزيز شمس، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد – ط1[ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، جدة، 1429هـ]، ص 46 – 47.
الدكتور عباس أرحيلة، مفكر وعلامة مهتم بدراسة التراث العربي الإسلامي

لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *