
قبل 5 سنوات
بعيدا عن كورونا.. قراءة في نص قديم (من اختيار : عباس أرحيلة)
نقتطف عبرة من نص ورد في كتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع (242هـ)، جاء الحديث فيه عن مثل الإنسان في هذه الدنيا، وعن طبيعة غفلته فيها. يقول: فلمّا فكَّرتُ في أمر الدنيا وعلمتُ أن هذا الإنسان هو أشرفُ الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزلته لا يتقلَّب إلَّا في شرٍّ ولا يوصف إلا به؛ علمتُ أنه ليس من أحدٍ له أدنى عقل يفهمُ هذا ثم لا يحتاطُ لنفسه ولا يعمل لنجاتها، ويلتمسُ الخلاص لها ؛إلا وهو ضعيفُ الرأي قليلُ المعرفة بما عليه وله. ونظرتُ فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذةٌ حقيرةٌ يسيرةٌ من المشرب والمطعم والشم والنظر والسمع واللمس، لعلَّه يُصيب منه طفيفًا لا يوصف، سريعٌ انقطاعُه وامتحاقُه وزوالُه. فالتمستُ له مثلًا فإذا مثله كمثل رجل ألجأه الخوف إلى بئر تدلَّى فيها، وتعلَّق بغُصْنَيْن نابتيْن على شُفرها؛ فوقعَ رجلاه على شيء عَمَدَهما؛ فنظر فإذا هو بأربع أفاعٍ قد أطلعن رؤوسَهُن من أجْحِرَتِهِنَّ. ونظر إلى أسفلها فإذا هو بتِنِّينٍ فاغرٍ فاهُ نحوَه، ورفع بصره إلى الغُصْنَيْنِ؛ فإذا في أصولهما جُرُذَانِ: أبيضُ وأسودُ يَقرضانهما دائبَيْن لا يفتُرانِ. فبينما هو على ذلك يهتمُّ بالحيلة لنفسه؛ إذ نظر فإذا قريبٌ منه كُوَارةُ نَحْل فيها شيء من عسل؛ فتطعَّم منه، واشتغل بحلاوته عن التفكُّر في أمره. ونسي الحيَّات الأربع التي رجلاه عليها، ولا يدري متى يثُرن به أو إحداهن، ولم يذكر أنَّ الجُرَذَين دائبانِ في قطْع الغُصْنَيْن؛ وأنهما إذا قطعاهما وَقَعَ في فم التِّنِّينِ فهلك، فلم يزل لاهيًا ساهيًا حتى هَلَكَ. فشبَّهتُ البئرَ بالدنيا المملوءة آفاتٍ وشرورًا ومخاوفَ ومتالفَ. وشبَّهتُ الحيَّات الأربع بالأخلاط الأربعة التي تعمَّدت الإنسان، ومتى يَهِجْ منها شيء فهو كالحُمَة من الأفعى والسمُّ المميت.
وشبَّهت الغُصنين بالحياة.
وشبَّهت الجُرَذَيْن بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاذ الآجال التي هي حصون الحياة. وشبَّهت التِّنِّين بالموت الذي لا بدَّ منه.
والعسلُ هذه الحلاوة القليلة التي يصيبها الإنسان فتشغله عن نفسه، وتُلهيه عن التحيُّل لخلاصه، وتصُدُّه عن سبيل نجاته.
الدكتور عباس أرحيلة، أستاذ التعليم العالي سابقا، كاتب ومفكر وعلامة مهتم بدراسة التراث العربي الإسلامي
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!