
قبل 5 سنوات
بعيدا عن كورونا.. عمر الجدلي يكتب عن اللجان والمهرجان وعفاريت الإنس والجان
يبدو أن معضلة المسرح المغربي الحقيقية تكمن في اللجان أو بالأحرى من يتدخل في تكوينها ويتحكم في نتائج أشغالها. وحين نتأمل مشهدنا المسرحي على مدى كل السنوات التي مضت في جبة الدعم المسرحي، نستطيع أن نتبين، ودون كبير جهد، أن كل التطاحنات التي يعيشها هذا القطاع، وكل الاختلافات والمؤاخذات، وكل التظلمات التي ترفع إلى ديوان وزير الثقافة، ووابل الأحاديث المتفرقة في المقاهي، والدردشات الواقعية والافتراضية المكشوف منها والمقنع، تدور رحاها حول تركيبة اللجان ونتائجها، سواء تعلق الأمر بلجان الدعم المسرحي، أو بلجان انتقاء عروض المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح ولجان التحكيم الخاصة بها. وقد يبدو ظاهريا أن كل هذه الجعجعات طبيعية كما تعيشها جميع قطاعات الشأن العام والإنفاق العمومي في العالم الثالث، وذلك مصداقا للقول المأثور " كلما أردت أن تفسد مجالا أحدث فيه لجنة "، لكن حالتنا في المسرح المغربي تشد عن هذه القاعدة لاعتبارات عدة سنأتي على ذكرها في عرض هذا القوس.
ابتلي المسرح المغربي منذ فجر الاحتراف والتنظيم المقلعن، بدل المعقلن، بأشخاص نصبوا أنفسهم، منذ ذلك الحين، أوصياء على القطاع، مستغلين الفراغ التنظيمي وضعف بعض البنيات المهترئة التي كانت تتنازع حول تدبير الآني بأفق ضيق وبعقليات تقليدية محدودة التطلع، وهؤلاء للأسف الشديد، لا هم بالممثلين ولا بالكتاب ولا بالمخرجين ولا التقنيين ولكنهم فنانون بقوة الأشياء، فنانون يتفننون في هندسة كل شيء فينا ولنا، من لجان الدعم إلى نتائج المهرجانات، ومن البعثات إلى الإكراميات ومراسيم الدفن. قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنني أغالي في مزاعمي، أو أستقصد شخصا لذاته، لكن ذاكرة المسرحي المغربي، التي تحتفظ بكل التفاصيل حول الموضوع، حافلة بالأمثلة وعيان الشهود. فالتحكم الذي تعيشه الساحة المسرحية تأسس ونمى ووجد له نفوذا فينا منذ ولاية الوزير الأشعري، أي منذ إرساء قواعد العمل بالدعم المسرحي، والنخب التي تتحكم في رقاب العباد الآن هي الجيل الثاني للكائنات الهجينة التي تملكها المتحكمون عن طريق الريع المقنع وعن طريق الجوائز والوظائف والسفريات والتكليفات بإدارة بعض المندوبيات الإقليمية والمديريات الجهوية التابعة لوزارة الثقافة، ففي بلدنا السعيد هذا وحده، يجتمع في الفنان ما لا يمكن جمعه في شخص آخر، فبعضنا تجده مديرا جهويا للثقافة، ورئيس فرع للنقابة، وعضوا في مكتبها الوطني، ورئيسا لفرعها الجهوي، وعضوا في لجنه الدعم، وحين تنتهي صلاحية لجنة الدعم تجده أول المستفيدين من نفس الدعم وأول الحاصلين على جوائز المهرجان الوطني. في بلدنا السعيد، ولن تجدها في بلد آخر، رئيس للنقابة ومستشار لوزير يسير نفس القطاع في نفس الآن، وحين تنتهي ولاية الوزير تجده يناضل في الوزير البديل ويصيح بملء شدقيه إرحل تحت يافطة الإصلاح ورد الاعتبار، وهذا أمر بات يعرفه القاصي والداني ولا يحتاج إلى تحليل أو تأويل، لأن أشعة الشمس لا تحجبها ثقب الغربال، فما بالك لو كان الغربال مخروقا.
هذه توطئة صغيرة لأهمس في أذن الزملاء الذين يتحدثون بحرقة عن إقصاء أعمالهم من المسابقة الرسمية للمهرجان، أو إقصاء فرقهم من الدعم بأنواعه، فالإقصاء ليس وليد اللحظة وليس له علاقة باللجنة، بل هو وليد منظومة فاسدة أُحكمت قواعدها منذ أمد بعيد، وابتُكرت لها أساليب جهنمية لإقناعنا بان الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، ورصدت لها ميزانية مصدرها الريع المقنع الذي تحدثنا عنه في القوس السابق، وجيش لها العديد من المتقولة وعبدة المصلحة وحاملي الحقائب الفارغة.
ليس عيبا أن نحتج على لجنة أو عضو في لجنة، لكن العيب أن نطلق النار على العبد المأمور بينما نمدح ونتملق سيده ومالك زمامه، والعيب كل العيب في الذين يستنكرون اليوم إقصاءهم وينسون صمتهم بالأمس حين كانوا ضمن حلقة المفضلين وكانوا يستفيدون من الدعم بأنواعه ويتواجدون في كل مهرجانات الدنيا. لا ينبغي أن نعلق خيباتنا على لجن هي نحن، أردنا أم أبينا، لجن لا حول لها ولا قوة غير أنها اختارت الطريق السهل حيث توقيع صغير واشتغال قليل لا يتعدى السويعات يضمن تعويضا محترما، فحال هذه اللجن كحال الذين يستفيدون من الدعم ومن جوائز المهرجان، مادام الانبطاح سيد الموقف. لا ينبغي أن ننتظر من لجنة ولا حتى من الوزارة نفسها أن تمدنا بمعايير الانتقاء، لأن مجرد قراءة الأسماء المختارة للجنة تلغي كل المعايير الموضوعية. أقول أن هذه اللجن هي نحن بشكل من الأشكال لأن كل الذين تعاقبوا على لجان الدعم هم زملاء وأصدقاء لنا، وهم فنانون يمارسون حقهم الطبيعي، والعديد منهم شرفاء سلموا بالأمر الواقع، ومنهم من انسحب في العديد من المرات معبرا عن رفضه الانصياع لأوامر مدير الفنون ومستشار الوزير، ومنهم من أعرب عن سخطه سرا وكشف الأوراق معبرا عن براءته مما قد أحيك باسمه، ومنهم من لا يخشى في الفساد لومة لائم… هذه الفئة الأخيرة هي سبب خراب المسرح المغربي، لو تعلمون، فنانون، مع الأسف، مستعدون للعب دور محامي الشيطان أمام الملأ، لا يتاونوا عن الطعن وبيع الذمم والرقص على الحبال، هؤلاء هم معضلة هذه الساحة وعطبها وعطل عجلتها الدائم، لأنهم وبكل بساطة يأتمرون بإمرة مباشرة من ولي نعمتهم ويمثلونه خير تمثيل داخل لجان هو سيدها، ويتحدثون بلسانه ويستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة، لذلك تجدهم يخرجون ويدخلون خلال الاجتماعات ليتلقوا التعليمات عبر الهاتف، ويناورون كلاعب شطرنج محترف يتلقى نقلاته من " نبار " يرى كل شيء من الأعلى، وقد تتكسر هذه القاعدةن ويرفع التكليف، فيتحدث المتحكم بنفسه مع أعضاء اللجنة على مكبر الصوت مغلفا رأيه برأي الخبير أو استشارة العليم، أو برغبة الوزير في دعم جهة دون غيرها، من دون علم الوزير طبعا…
وحين نتحدث عن المهرجان الوطني للمسرح، وعن نتائج لجن التحكيم المختلفة، واستقراءا لنتائج كل دوراته السابقة، فلا يشق على كل ذي فكر فطين، أن يقرأ جوائز هذا المهرجان من نتائج الانتقاء، لأن الأعمال التي يمكنها أن تنافس على الجائزة الكبرى يتم إقصاؤها منذ البداية ليستأثر عرض واحد بإجماع اللجنة والمتتبعين والجمهور، وهذا الإقصاء ليس فيه أي ظلم حسب منطق التحكم، لأنه مجرد تناوب مقصود حتى يأخذ كل مبدع مُقرب حقه في الأضواء وفي الإعلام وفي فرص الشغل المحتملة التي يضمنها التميز والفرادة والإشعاع. لذلك ترى في مهرجاننا اليتيم، أن جائزة الإخراج والجائزة الكبرى توزعان بالعدل، إذ لا يمكن لفرقة أن تفوز مرتين متتاليتين، ولا يمكن لمخرج أن يتميز مرة متتاليتين إلا ناذرا، إنه منطق التوزيع العادل للثروة. وقد تصادف في هذا المهرجان أن الفرقة الفائزة بالجائزة الكبرى لم تفز بأية جائزة أخرى من جوائز المهرجان، كما تجد المخرج الموعود بجائزة الموسم، في إطار تسوية ما، يمكن مشاهدة عرضه، استثناء، داخل القاعة بحضور أعضاء لجنة الانتقاء، بينما تشاهد باقي الأعمال المرشحة على القرص المدمج، وتجد في المهرجان أيضا أعمالا جديدة لم يقدم عرضها الأول إلا بعد انصرام أجل وضع الترشيحات بأزيد من شهر، وحين تسأل عضو في اللجنة عن ملابسات الأمر يجيبك بأن المسألة تمت بأمر من مستشار الوزير، ومن بين ما يمكن أن تجد في مهرجاننا المسكين، إقصاء كل النصوص المسرحية التي كتبت بتأليف محض مقابل ترشيح نص واحد فقط وإلى جانبه باقي النصوص المقتبسة والمترجمة، فتعرف أن صاحب النص المؤلف سيفوز حتما بجائزة النص، لأن قانون المسابقة يقضي بتتويج النص المغربي دون الاقتباس، وقد تصادف في مهرجاننا المزوق عملا مسرحيا يقصى من جوائز المهرجان الوطني ويفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان المسرح العربي، وتصادف في مهرجاننا المحترم، فوز عمل محترم بجائزة النص المسرحي مع أن لا نص فيه غير كتابة مشهدية وكوريكرافيا وأبيات شعرية، وتصادف في مهرجاننا المبجل أن العروض المبرمجة خارج المسابقة أجود من عروض المسابقة، وتصادف أيضا شخصا قاطع المهرجان يوما في تسوية شخصية مع وزير الثقافة فتبعته كل الساحة المسرحية بما فيها موظفو الوزارة نفسها، وحين تقاطع فرقة نفس المهرجان، في دورة اللاحقة احتجاجا على إقصاء ممنهج مع سبق الإصرار، لايتبعها إلا الأذى والوعيد وخفض سقف الدعم المحتمل ، وتصادف ما لم تصادفه في مهرجانات الدنيا، وكل ذلك مصادفة من مصادفات التحكم للأسف الشديد.

من أجل كل ذلك أقول أن مسألة المهرجان كمسألة الدعم تماما، هي تحصيل حاصل لما يطبخ خارج دهاليز وزارة الثقافة ويفرض على مديرية الفنون تارة باسم الشراكة، وتارة باسم التعاون، وتارة باسم أجندة الديوان.
دعونا نتأمل الأسماء التي تستفيد من الدعم في السنوات الأخيرة وبشكل منتظم، وتلك التي تتشكل منها اللجان بشكل منتظم، والذين يتناوبون على جوائز المهرجان بشكل منتظم، والذين يشاركون في المهرجان العربي للمسرح ومشتقاته بشكل منتظم، والذين يمثلون المسرحيين في محافل العالم بأغرب شكل منتظم، والذي يحاضرون في ندوات المهرجانات العربية بشكل لا نعرف عنه شيئا لكنه منتظم، والذين ينجحون في مباراة التوظيف بشكل منتظم، والذين يتناوبون على أنشطة التوطين مرة باسم التوقيع ومرة باسم التسيير ومرة باسم التأطير ومرة باسم الله الرحمان الرحيم…وكل ذلك بشكل منتظم. أليست هذه لائحة من عشرين إلى ثلاثين فنانا يتواجدون في كل مكان ويستفيدون من كل شيء ويفهمون في كل شيء، أليست هذه زمرة مكشوفة للعيان من خلال مواقعها وطبيعة العلاقات التي تجمعها ؟
إن الحديث عن موضوع كهذا وحتى قراءة هذا النوع من الكلام يحتاج إلى القدرة على تمثل الواقع ومكاشفة الذات والحفر عميقا في النفس لاستجداء وازع من ضمير حي، لأن هذا النوع من الكلام، مدونا كان أو منثورا في الهواء، يقابله الكثير من التضليل والتشويش والتلبيس، وتواجهه الأقلام المأجورة التي لا حجاج لها غير الزعاق والسباب، ومع ذلك فهي على صواب في نظر الكثير منا، لذلك فهو موجه لتاريخ المسرح المغربي ولأجيال قد تأتي بعدنا وتجد واقع الحال على حاله، فتوقن أننا كنا عابري سبيل في مسرح ليس لنان وفي بلد لا صوت لنا فيه، حتى في ما نمارسه من شغف إبداعي نعتقد أننا نوجهه إلى المجتمع ونحن في حاجة لتوجيهه إلى انفسنا قبل كل شيء. لذلك أشعر بنوع من الرثاء وأنا أغلق هذا القوس، أشعر بنوع من الشفقة على وضعنا الذي تصنع فداحته شرذمة من الوصوليين والانتهازيين والمشردين بين المهن، بينما السواد الأعظم منا لا زال يصفق ويجامل ويهادن ويلوم في أقصى درجات الاحتجاج. أشعر بالمرارة وأنا أتصور كم من عين ستقرأ هذه السطور وتحترق بالحسرة دون أن تغمز أو تلمز لفضح المستور، وكم من صديق وكم من زميل يمر على هذا الركن ويشعر في أعماقه بصدق ما أقول من دون أن يحرك ساكنا، أشعر بالغبن وأنا أتلقى مكالمات من العديد من الفنانين يشيدون بالجرأة في فتح هذه الأقواس من دون أن تكون لهم الجرأة في اتخاذ موقف إزاء ما يؤمنون به ويرونه صائبا. أشعر بالكثير من الخيبة وأنا أشعل شمعة في ظلام دامس، فيه الكثير من الأفواه الفاغرة والتي لا تحسن إلا النفث، لكنني أومن أيضا بأن شمعات أخرى توقد في نفس الظلام بين الحين والآخر، وحسبنا شرف المحاولة عسى أن يلتقي الضوء بالضوء، وللحديث بقية في قوس آخر.
بقلم المخرج والكاتب المسرحي عمر الجدلي
ملحوظة : "الرأي يلزم موقعه ولا يلزم الموقع"
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!