قبل 5 سنوات

بعيدا عن كورونا.. المشروع الرؤيوي للبلاغة الخطية الجديدة


د. محمد البندوري
إن محمد بنيس قد أشار إلى هذا الموضوع من خلال دعوته أولا إلى الاهتمام ببنية المكان، يقول :" لم يتطرق النقاد لبنية المكان في المتن الشعـري المعاصر، وعدم احتفالهم بهذا المجال البصـري يعبر بوضوح عن تحكم التصور التقليدي في قراءة النص الشعري."
ولتجاوز بنية الزمان المتحكمة في الشعرية العربية إلى بنية المكان، يرى محمد بنيس لزومية عنصرين أساسيين، يتمثل الأول في لعبة الأبيض والأسود حيث :" تعيش النصوص صراعا بين الخـط والفراغ أو بين الأسود والأبيض." ويبقى:" الإيقاع في لعبة الفراغ من أهم ميزات فن الخـط العربي. ولأن العلاقة بين النص الخـطي والنص الخطابي علاقة عضوية، فإن موسيقى اللغة العربية تتجلى في صيغ الخط، مما يجعلنا نسمع هذه الموسيقى من خلال جمالية الشكل الخطي." بينما يتمثل العنصر الثاني في دعوته الملحة إلى تجاوز الخط المطبعي لأنه: "عادة ما يلغي النص كجسد، حروف باردة تسقط على الأوراق البياض، يتحكم فيها سفر من اليمين إلى اليسار يختزن النص في معنى والمعنى في كلام، يمحو نشوة القراءةوتعدد الدلالة."
ويعد محمد بنيس من أوائل الشعراء الذين خرقوا الأساليب المعتادة بخصوص العلامات الإعرابية، رغبة في توليد المعاني والدلالات الجمالية والبصرية.
لقد ترتب عن الاهتمام بالمجال البصري في التراث الشعري العربي نشوء بلاغة جديدة، يقول العمري :" إن أثر الكتابة باعتبارها مجالا للبصر والبصيرة، والنظر الحسي والعقلي معا قد تجلى في بعدين أساسيين : أولهما الاهتمام بالفضاء البصري الناتج عن الخط، وثانيهما قيام بلاغة منافرة لبلاغة المسموع."
التنظير البلاغي لمحمد بنيس
ولعل محمد بنيس في إطار تبريراته لهذا المنحى في التجربة البصرية يرى بأن تبني بلاغة شعرية جسدية خارجة عن المألوف، مبتعدة عن أوهام أو ميتافيزيقا الصوت يسعى إلى الاحتفال بالخط والجسد ضدا على جبروت الصوت."
إن اتخاذ البلاغة العربية منحى بصريا، وارتباطا بالتجربة التاريخية لشعراء المغرب والأندلس في ارتباطها بالخط المغربي خلال القرنين السادس والسابع، فإن العصر الحديث أفرز نمطا جديدا من الشعر وفق قصائد مغايرة للمألوف تتخذ من الخط العربي عامة والمغربي خاصة بعدا جماليا، من طرف شعراء ونقاد مغاربة.
وبذلك فقد حمل الخط العربي لدى محمد بنيس دلالات كبيرة وعميقة تبرز أهميتها أساسا داخل النص الشعري:" فهو ليس حلية تنضاف إلى الكلام، إلى الصوت، إلى الزمان، من يقول بمثل هذا الحكم يظل مستسلما لتيهه، لأنه لا يخرج على الدائرة الميتافيزيقية التي تعطي الأولوية للصوت وتجعل الخط مجرد حامل للمعاني." بل وتظهر أهميته أكثر فأكثر من خلال اختراقه للغة وقلب المفهوم السائد للشعر، يقول محمد بنيس :" عندما نخضع الخط للوعي النقدي نتبين أنه بعيد عن أن يكون قناعا، بل هو نسق مغاير يخترق اللغة، يعيد تكوينها وتأسيسها. ومن تم يتضح لنا كيف أن البحث عن بلاغة جديدة للنص يستلزم اختراق الكلام، الصوت، بالخط الذي يملك سره الخاص لقلب المفهوم السائد للشعر، وهو فعل يجذر مادية الكتابــــة وجدليتها." فللخط إذن موسيقيته التي تمنح النص الشعري أعذب الألحان:" ومن ينكر على الكتابة إعادة بنية المكان، يمنع كتابة جسد ينتشي بموسيقية الخط، موسيقية تمنح النص سلالم من الأنغام والألحان."
فالخط بمفهومه إذن:" يمكن من الخروج على دائرة الكلام المغلقة، يرحل بالجسد بعيدا."
إن دعوة محمد بنيس إلى استغلال البعد الجمالي والبلاغي لعنصر الخط، تحمل في طياتها دعوة للعودة الى الخط المغربي لأنه :" يمنح هويتنا ابتهاجها، وهو في الحقيقة عودة المكبوت وتحقـق لعشق حاولنا ظلما تنويمه بحجـة تكريس وحـدة الخـط العربي." ويقول أيضا:" كثيرا ما كبتنا عشقنا للخط المغربي ."
ففي الوقت الذي يعلق فيه محمد القاسمي على دعوة بنيس بقوله:" (ويعود الخط المغربي)..(عودة المكبوت) بهذه الجمل الاشتياقية، وأخرى، يرغب محمد بنيس في استرجاع الشرعية للخط المغربي وتحضيره في الاستعمال. وقد يكون لهذا التحضير عناصره الإيجابية ومكوناته الداخلية والخارجية (الكتب.. سيطرة الخط الشرقي،عودة الغائب، الخصوصية)." نجد عبد الله راجـع يقر في رأي مغاير وصـريح أن:" الخط المغربي وهو يدخل في طقوس الكتابة الجديدة وتيميائها يصبح جانيا ومجنـيا عليـه."
إلا أن محمد بنيس عاد ووضح بأن العودة للخط المغربي تتنصل من كل قطيعة مع الأنواع الأخرى العربية لأن الكتابة تنبذ الانغلاق مهما كانت صيغته."
وفي إطار الصراع بين الخط والفراغ، يؤكد محمد بنيس عدم الاحتفال بالفراغ إذ يعتبره:" سقوط في الكتابة المملوءة التي لا تترك مجالا لممارسة حدود الرغبة، إذ أن كل كتابة مملوءة هي كتابة مسطرة لحد واحد يدعي تملك الحقيقة." ويمثل محمد بنيس بنموذج المجاطي:" كيف يضغط البياض على السواد..وعندما يخط الشاعر الترابط اللغوي على البياض تحس بأنه يوجه وعيك ولا وعيك في نفس الوقت لترى الواقع من خلال عينه التي رأت واختارت ما تقدمه لعينك."
المشروع البلاغي للعمري
ويذهب العمري إلى أن البلاغة العربية قد تجلت في مظهرين:" أحدهما احتـلال الكتابة مكانة في التنظير البلاغي باعتبارها صناعة لها أدواتها، وهذا ما نجده في أدب الكتاب والكتابة." وقد اكتفى بمثال يتعلق بتطور البيان من الجاحظ إلى ابن وهب:" فابن وهب يخصص فصلا من كتابه (البرهان في وجوه البيان) يتناول فيه جودة الخط وتنظيم البياض بعد أن كان الأمر يقف عند ثقافة الكاتب ومراعاة حال المخاطب." وقد تحدث ابن وهب عن تنظيم الصفحة في قوله:" فأما جـودة التقرير فأن يكون ما يفضل من البـياض أو القرطاس أو الكاغد أو الورق عن يمين الكـتاب وشماله وأعلاه وأسفله على نسب متساوية، وأن تكون رؤوس السطور متساوية، فإنه متى خرج بعضها عن بعض قبحت وفسدت، وأن يكون تباعد ما بين السطـور على قسمة واحدة." وهذا النص يشكل يطرح تشاكلا جديدا مغايرا لنمط البلاغة العربية السائدة لأنه مدرك بالعين متجاوز للمسموع.
والمظـهر الثاني للاستجابة البلاغـية حسب العـمري:" يرجع إلى الاهتمام بالخـط باعتباره تشكـيلا أي تشابه الحروف في شكلها الخـطي." ومن ذلك ما ذهب اليه محمد بنيس :" الذين جعلوا من الخـط بعدا بلاغيا يفتح النص على البصـر بعد أن اكتفى بالسمع زمنا طويلا."

د.محمد البندوري

لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *