قبل 5 سنوات
بعيدا عن كورونا.. الحروفي المغربي حكيم دراري يؤنسن الحروف جماليا
يمزج الفنان حكيم دراري مجموعة من الحروف والخطوط المختلفة برمزية وإيحاء، ليقدم بلاغة خطية جديدة في المشهد التشكيلي الحروفي. يتوخى من خلالها كونية الحرف وأنسنته. وإحداث أسلوب شخصي متفرد، فاختار هذا الأسلوب في التعبير ليرسم بخطوط متباينة منها الفارسي والعبري واللاتيني والعربي بحركات يبسط أشكالها بكميات مختلفة في الفضاء. وبذلك فأعماله في مجملها تحقق أشكال جديدة تطلق سراح الحرف وتبعده عن كل القيود، بتنظيم فارقي لكل المفردات والعناصر المكونة للقاعدة الحروفية فتتجسد سحرية الخط العربي والعبري والفارسي في كونيته من خلال عملية التثبيت المحكم والمنظم داخل الفضاء، وتظهر أشكال الخط الفارسي ومجمل الخطوط الأخرى العبرية والخطوط اللاتينية مكثفة في الفضاء باحترام عفوي لبعض ضوابطها، وهو ما يحيل إلى أن ريشة المبدع حكيم دراري تترصد التوظيف الجمالي المحكم لكل المفردات الفنية من ألوان وخطوط، واختزال للمساحات بعفوية وتلقائية. ويتبدى من خلال أعماله أن هذا التأطير يأتي في سياق التجربة الفنية للمبدع حكيم دراري التي تروم التجريد الحروفي المعاصر باستعمالات مائزة، تحرر مختلف الخطوط من كل القيود، وهو ما يبين ويوضح المشروع الفني الذاتي للفنان حكيم دراري، فليس من السهل المزج بين مفارقتي التداعيات الوجدانية بسحرها الجمالي المرصع بنشوة التراث الخطي العربي الأصيل بمنمنماته الرائقة، وبين الخطوط اللاتينية والخطوط الأخرى العالمية في بؤرة من الألوان المعاصرة المدججة بالتقنيات المعاصرة. فهو يبدع ويشكل أنواعا مختلفة في الكثافة والتموقع اللوني والحرفي على كل المستويات داخل الفضاء. وهي مكونات تترسب في ذهن الفنان حكيم دراري فيطبقها بقدر ما تستدعيه تجربته في هذا المجال الخصب. الذي يستدعي بدوره مميزات الخط من كل الأجناس في التشكيل العالمي، فضلا عن العلاقة بين جماليات الخط وجماليات التشكيل والتعبير. وفي هذا المنحى نجد نوعا كبيرا من التوازن الإبداعي لدى الفنان حكيم دراري بين الخط والتشكيل، فإن حِرفيته وموهبته ورؤاه التشكيلية تمنح القارئ تحويلا خلاقا، يتمثل الكلَّ الخطي في فضاء تشكيلي، ويجمع المفردات التشكيلية الحروفية بنوع من الدقة والضبط، ويبدد الغموض ويختزل بعضا من المساحات. ينجز طبقات صباغية خفيفة وأخرى حروفية رائقة، بنوع من التبسيط، بانتقاء دقيق وتسويغ تحكمه الفطرية، فيتراءى عليها الدال الخطي المتنوع، لتتبدى في نصاعة الظهور، وهو بعض من الجلب المقصود للرؤية البصرية التي تستجلي غالبا دلالات إضافية. وهذا يحيل الى أن الفنان يبني فضاءه على ميزان فني معرفي مركّب، يغلِّب المجال الحسي أحيانا، ويغلب المجال البصري أحيانا أخرى، لكنه مليء بالطاقة التعبيرية، ويروم إبراز الملامح الجمالية للحرف في كونيته وأنسنته داخل جمال اللون. وفي سياق آخر، فإن الحروفية المتنوعة من أجناس مختلفة التي يتبناها الفنان التشكيلي حكيم دراري تستحوذ على معظم الفضاء، لتشكل مفردات أيقونية أساسية لبعث الجديد، في عملية تشكُّل البناء الفني، فيحول الحروف المتنوعة والمختلفة بناء وشكلا كأحد المكونات الأسلوبية ذات القيمة الفنية التي تنتج العديد من الدلالات البصرية التي تحتمل التأويلات الجمالية المتعددة إلى رموز لها خاصياتها ومكانتها داخل الفضاء.
إن الفنان التشكيلي حكيم دراري يبرز تلك العناصر كمدخل تشكيلي يؤثث به فضاءات الحداثة وعوالمها الإبداعية الصرفة. ويؤكد أهمية حوار الخطوط عالميا وبذلك يبني عمله الإبداعي وفق مستحدثات تقنية في الرؤى التعبيرية، ووفق أدوات نصية يمزج خلالها الألوان ويوظفها بتدرج دقيق ومنظم، وبمقدرة أدائية عالية داخل النسيج الحروفي، مستعينا بعلامات ورموز وأشكال متنوعة، مما يجعل العمل يتخذ أبعادا تجريدية وفكرية وروحية وثيقة الصلة بالمنجز الحروفي الحداثي. حيث يتخذ من التعبير اللوني والفضاء الحروفي الناعم مادتين أيقونيتين للتعبير عن خلجاته وهواجسه وشعوره، بإلهام ورؤى وسحر فني عميق الدلالة، وبعلامات لونية، وأشكال وخطوط تجمع بين الحرف والشكل في سياقات مختلفة، تتوقف على مسافات وفراغات تعبيرية مفتوحة، بإِيقاعات لحنِية للخط، تشكل مجموعة عناصر في إطار التماثل والتباين والوحدة والانسجام بتمثيل للمقومات الايجابية للعمل الخطي، من حروف ومقاطع وكلمات، يسيطر جزء مِنها في الأعمال على كامل تكوينها، وفق أنساق متناغمة مع كل تلك العناصر في المزاوجة بين ضروب متعددة من الخطوط، يخالطها الفنان التشكيلي حكيم دراري ويمزج بينها وبين الأشكال الحروفية المستحدثة، ليصنع توليفا، يقلص به من حدة المفارقة، ويوطد به عروة التجانس بين كل العناصر والمكونات، وبين الخطوط العربية واللاتينية مستغلا رشاقة الحروف المتنوعة وحركيتها، لينتج من ذلك جماليات وقيم تعبيرية صرفة.
وبذلك تتيح أعمال الفنان التشكيلي حكيم دراري المجال لقفزة أسلوبية في الحروفية الكونية، حيث تتبدى فيها اجتهادات نابعة من السيميولوجية المحلية، والمؤثرات الحداثية الخارجية التي تصب في الثقافة العالمية، وأيضا بربط الأداء الخطي بالمادة التشكيلية في جوهرها، فضلا عن الاستعمالات التقنية المميزة، فتظهر الأعمال حابلة بالإيحاءات والرمزية الدلالية المختلفة. إنه توجه فني يستند عليه الفنان التشكيلي حكيم دراري، قد ينتج عنه أسلوب خاص يمتح من هويات مختلفة، وينبض بنمط إبداعي يروم الابتكار بشكل معاصر، مما يعطي لوحاته أبعادا فنية وجمالية فارقية.
د.محمد البندوري
لا يوجد حاليا أي تعليقات. كن أول من يشارك!